وقفات مع حياة العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله

وقفات مع حياة العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده..

وقفات مع حياة العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله.

1-التربية الناجحة تبدأ من البيت:

قال تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا..."، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله سائل كلّ راع عمّا استرعاه أحفظ ذلك أم ضيّعه حتى يسأل الرّجل عن أهل بيته".

ولد "عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس" المعروف بعبد الحميد بن باديس في (11 من ربيع الآخِر 1307 هـ= 5 من ديسمبر 1889م) بمدينة قسنطينة...نشأ في أسرة كريمة ذات عراقة وثراء، ومشهورة بالعلم والأدب، فعنيت بتعليم ابنها وتهذيبه، فحفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره.

ويَنشَأُ نَاشِئُ الفِتيَانِ مِنّا *** على ما كانَ عَوَّدَهُ أبُوهُ

وما دَانَ الفَتَى بحِجَى ولكن *** يُعوّده التَديُّن أقرَبُوهُ

كما تعلّم مبادئ العربية والعلوم الإسلامية على يد الشيخ "أحمد أبو حمدان الونيسي" بجامع سيدي محمد النجار.

2-الشباب الذي نريد:

ثم سافر إلى تونس في سنة (1326هـ= 1908م) وانتسب إلى جامع الزيتونة، وتلقى العلوم الإسلامية على جماعة من أكابر علمائه، أمثال العلّامة محمد النخلي القيرواني المتوفى سنة (1342هـ= 1924م)، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي كان له تأثير كبير في التكوين اللغوي لعبد الحميد بن باديس، والشغف بالأدب العربي، والشيخ محمد الخضر الحسين، الذي هاجر إلى مصر وتولى مشيخة الأزهر.

وبعد أربع سنوات قضاها ابن باديس في تحصيل العلم بكل جدّ ونشاط، تخرج في سنة (1330هـ = 1912م) حاملاً شهادة "التطويع" ثم رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التقى بشيخه "حمدان الونيسي" الذي هاجر إلى المدينة المنورة، متبرّمًا من الاستعمار الفرنسي وسلطته، واشتغل هناك بتدريس الحديث، كما اتصل بعدد من علماء مصر والشام، وتتلمذ على الشيخ حسين أحمد الهندي الذي نصحه بالعودة إلى الجزائر، واستثمار علمه في الإصلاح، إذ لا خير في علم ليس بعده عمل، فعاد إلى الجزائر، وفي طريق العودة مرّ بالشام ومصر واتصل بعلمائهما، واطّلع على الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية لهما.

قالت حفصة بنت سيرين رحمها الله: "يا معشر الشباب اعملوا، فقد رأيت العمل في الشباب".

شَبَابَ الحَقِّ للإسلامِ عُودُوا**فأنتُم فَجرُه وبكُم يَسُودُ

وأنتم سِرُّ نَهضَتِه قَدِيمًا *** وأنتم فَجرُهُ البَاهِي الجَديدُ

3-الحفاظ على الهوية أمر مقدس:

كانت الجزائر أول أقطار العالم العربي وقوعًا تحت براثن الاحتلال، وقُدّر أن يكون مغتصبها الفرنسي من أقسى المحتلين سلوكًا واتجاهًا، حيث استهدف طمس هوية الجزائر ودمجها باعتبارها جزءًا من فرنسا، ولم يترك وسيلة تمكنه من تحقيق هذا الغرض إلا اتبعها، فتعددت وسائلة، وإن جمعها هدف واحد، هو هدم عقيدة الأمة، وإماتة روح الجهاد فيها، وإفساد أخلاقها، وإقامة فواصل بينها وبين هويتها وثقافتها وتراثها، بمحاربة اللغة العربية وإحلال الفرنسية محلها، لتكون لغة التعليم والثقافة والتعامل بين الناس.

غير أن الأمة لم تستسلم لهذه المخططات، فقاومت بكل ما تملك، ودافعت بما توفر لديها من إمكانات، وكانت معركة الدفاع عن الهوية واللسان العربي أشد قوة وأعظم تحديًا من معارك الحرب والقتال، وقد عبّر ابن باديس، عن إصرار أمته وتحديها لمحاولات فرنسا بقوله: "إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدد معين هو الوطن الجزائري".

شعبُ الجَزائِرِ مُسلِمٌ**وإلى العُرُوبَةِ يَنتَسِب

من قَال حَادَ عن أصلِهِ**أو قَال مَاتَ فَقَدْ كَذَب

لكن للأسف: "المغلوب مولع دوما بتقليد الغالب" كما قال العلامة ابن خلدون رحمه الله.

4-الثورة العلمية هي المخرج من كلّ الظلمات:

إنّ أول كلمة نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اقرأ"، ومن هنا كان منطلق العلامة ابن باديس في الإصلاح.

إذ يُعدّ الجانب التعليمي والتربوي من أبرز إسهامات ابن باديس الإصلاحية، ولم تقتصر على الكبار، بل شملت الصغار أيضًا، وتطرقت إلى إصلاح التعليم تطوير ومناهجه، وكانت المساجد هي الميادين التي يلقي فيها دروسه، مثل الجامع الأخضر، ومسجد سيدي قموش، والجامع الكبير بقسنطينة، وكان التعليم في هذه المساجد لا يشمل إلا الكبار، في حين اقتصرت الكتاتيب على تحفيظ القرآن للصغار، فعمد ابن باديس إلى تعليم هؤلاء الصغار بعد خروجهم من كتاتيبهم.

ثم بعد بضع سنوات أسس جماعة من أصحابه مكتبًا للتعليم الابتدائي في مسجد سيد بومعزة، ثم انتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة (1336هـ = 1917م)، ثم تطوّر المكتب إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أنشئت في (رمضان 1349 هـ= 1931م) وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس.

ولكي ندرك أهمية ما قام به ابن باديس ورفاقه من العلماء الغيورين، يجب أن نعلم أن فرنسا منذ أن وطئت قدماها الجزائر سنة (1246 هـ = 1830م) عملت على القضاء على منابع الثقافة الإسلامية بها، فأغلقت نحوا من ألف مدرسة ابتدائية وثانوية وعالية، كانت تضم مائة وخمسين ألف طالب أو يزيدون، ووضعت قيودًا مهنية على فتح المدارس، التي قصرتها على حفظ القرآن لا غير، مع عدم التعرض لتفسير آيات القرآن، وبخاصة الآيات التي تدعو إلى التحرر، وتنادي بمقاومة الظلم والاستبداد، وعدم دراسة تاريخ الجزائر، والتاريخ العربي الإسلامي، والأدب العربي، وتحريم دراسة المواد العلمية والرياضية. الإشارة إلى سياسة الأعداء: فرّق وجهّل تسد: آمن ابن باديس بأن العمل الأول لمقاومة الاحتلال الفرنسي هو التعليم.

5-روح المثابرة:

وقد بدأ ابن باديس جهوده الإصلاحية بعد عودته من الحج، بإلقاء دروس في تفسير القرآن بالجامع الأخضر بقسنطينة، فاستمع إليه المئات، وجذبهم حديثة العذب، وفكره الجديد، ودعوته إلى تطهير العقائد من الأوهام والأباطيل التي علقت بها، وظل ابن باديس يلقي دروسه في تفسير القرآن حتى انتهى منه بعد خمسة وعشرين عامًا، فاحتفلت الجزائر بختمه في (13من ربيع الآخر 1357هـ=12من يونيو 1938م).

6-الرجوع إلى المعين الصافي والمنهل العذب الزلال وتنوير العقول بنبذ الخرافة وهجر البدع والمحدثات:

عمل ابن باديس على نشر التعليم الصحيح، والعودة بالإسلام إلى منابعه الأولى، ومقاومة الزيف والخرافات، ومحاربة الفرق الصوفية الضالة التي عاونت المستعمر. وعمل على إرجاع الأمة إلى الوحيين بتدريس التفسير وشرح الحديث في الموطأ الذي أكمله في قريب من تلك المدة.

قال مالك رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"

7-الأم مدرسة إذا أعددتها ** أعددت شعبا طيب الأعراق:

حثّ ابن باديس الجزائريين على تعليم المرأة، وإنقاذها مما هي فيه من الجهل، وتكوينها على أساسٍ من العفة وحسن التدبير، والشفقة على الأولاد، وحمّل مسئولية جهل المرأة الجزائرية أولياءها، والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلّموا الأمة، رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثمًا كبيرًا إذا فرطوا في هذا الواجب.

ويقول الشيخ عبد الحميد بن باديس: "إن أردتم أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها".

فنصيحتي لبناتنا أن يجمعن بين العلم الصحيح والعمل به والحياء والحشمة والطهر والعفة..

8-فضل العمل الجماعي:

احتفلت فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر في سنة (1349هـ = 1930م) فشحذ هذا الاحتفال البغيض همّة علماء المسلمين في الجزائر وحماسهم وغيرتهم على دينهم ووطنهم، فتنادوا إلى إنشاء جمعية تناهض أهداف المستعمر الفرنسي، وجعلوا لها شعارًا يعبر عن اتجاههم ومقاصدهم هو: "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، وانتخبوا ابن باديس رئيسًا لها.

وقد نجحت الجمعية في توحيد الصفوف لمحاربة المستعمر الفرنسي وحشد الأمة الجزائرية ضدها، وبعث الروح الإسلامية في النفوس، ونشر العلم بين الناس، وكان إنشاء المدارس في المساجد هو أهم وسائلها في تحقيق أهدافها، بالإضافة إلى الوعّاظ الذين كانوا يجوبون المدن والقرى، لتعبئة الناس ضد المستعمر، ونشر الوعي بينهم.....وانتبهت فرنسا إلى خطر هذه التعبئة، وخشيت من انتشار الوعي الإسلامي؛ فعطّلت المدارس، وزجّت بالمدرسين في السجون، وأصدر المسئول الفرنسي عن الأمن في الجزائر في عام (1352هـ= 1933م) تعليمات مشددة بمراقبة العلماء مراقبة دقيقة، وحرّم على غير المصرح لهم من قبل الإدارة الفرنسية باعتلاء منابر المساجد، ولكي يشرف على تنفيذ هذه الأوامر، عيّن نفسه رئيسًا للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

9-الإعلام والإصلاح الشامل:

كانت الصحف التي يصدرها أو يشارك في الكتابة بها من أهم وسائله في نشر أفكاره الإصلاحية، فأصدر جريدة "المنتقد" سنة (1345 هـ= 1926م) وتولى رئاستها بنفسه، لكن المحتل عطّلها؛ فأصدر جريدة "الشهاب" واستمرت في الصدور حتى سنة (1358هـ= 1939م) واشترك في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مثل "السنة" و"الصراط" و"البصائر".

وظل هذا المصلح -رغم مشاركته في السياسة- يواصل رسالته الأولى التي لم تشغله عنها صوارف الحياة، أو مكائد خصومه من بعض الصوفية أذيال المستعمر، أو مؤامرات فرنسا وحربها لرسالته، وبقي تعليم الأمة هو غايته الحقيقية، وإحياء الروح الإسلامية هو هدفه السامق، وبث الأخلاق الإسلامية هو شغله الشاغل، وقد أتت دعوته ثمارها، فتحررت الجزائر من براثن الاحتلال الفرنسي، وإن ظلت تعاني من آثاره.

10-وفي موته عبر وعظات:

وكَانَت في حَيَاتِك لِي عِظَاتٌ ** وأَنتَ اليَومَ أَوعَظَ مِنْكَ حَيَّا

مات رحمه الله فجأة لمرض ألمّ به، وقيل: مات همّا وغمّا وكمدا، بسبب التضييق عليه وعلى الدعوة الإسلامية عموما.

وقد ذكر رفيقه على الدرب "العلامة الإبراهيمي" أنه كان يعاني من سرطان لم يكن يعلم به حتى المقربون، ولم يكن له وقت لعلاجه.

رحمك الله يا إمام النهضة رحمة واسعة.

مَوتُ التَقيِّ حَياةٌ لا انقِطَاعَ لَهَا...قَد مَاتَ قَومٌ وهُم فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ.

 أخوكم الذي يحبّ لك الخير:

يوسف بن عاطي